التاريخ كما يجب أن يكون



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

التاريخ كما يجب أن يكون

التاريخ كما يجب أن يكون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    وسائل لإتقان مهنة تدريس التاريخ

    safaa70
    safaa70
    المدير العام


    عدد المساهمات : 129
    تاريخ التسجيل : 28/02/2009
    العمر : 53
    الموقع : المدير العام للمنتدى

    وردة وسائل لإتقان مهنة تدريس التاريخ

    مُساهمة من طرف safaa70 الأربعاء أكتوبر 07, 2009 12:06 am

    إنَّ من جملة غرائب هذا الزمان هذا الإصرار من جانب كثرةٍ من رجال الفكر ودعاة النهوض على حساب تجاهل التاريخ، وخاصَّةً تاريخ أمَّتنا الإسلاميَّة، ومتى اضطَّروا إلى الخوض فيه انتقَوا ما يؤيِّد توجُّهاتهم، حتى صار علم التاريخ مؤيِّداً لكافة التناقضات سواءً الأيديولوجيَّة العقائديَّة، أو لخطط الإصلاح والنهوض، ومرجع ذلك أنَّنا –جميعا- لا نريد حقائق كاملة، بل نريد منها ما يؤيِّد وجهتنا، ويدعم رؤيتنا المسبقة للأمور، والأمر في التاريخ على خلاف ذلك.

    كان لا بدَّ من هذه المقدِّمة لأنَّنا جميعاً نعاني في تدريس التاريخ من مشاكل أساسيَّة، من أبرزها المنهج الذي نقوم بتدريسه، فالغالب في بلادنا أنَّ المناهج موضوعة متوافقة مع سياسات الدول، وبالتالي تتمُّ عمليات الانتقاء والصياغة لتؤكِّد مصداقيَّة الدولة.

    وأذكر في هذا الإطار قصة لصديق عمن كان يدرس له التاريخ في المرحلة الإعدادية بمصر، وكان المدرس يغلق الباب ثم يهمس بدرسه بين الأولاد، ويختم درسه الهامس بأن هذا هو التاريخ والوقائع الحقيقية، ثم يفتح الباب ليعلو صوته بالتاريخ المقرر وفق الرؤية الرسمية.

    فإذا أضفنا لهذا التدخل الخارجي والدعوات الداخلية لتفريغ كتب التاريخ من المعاني الإسلامية، وتحويلها لقصاصات تحوي تفاصيل كثيرة، تجعل الطالب في النهاية في مواجهة كارثة دراسية، إذ يكون عليه أن يحقق درجات بمذاكرة هذا الدروس التي تفتقر للرابط فيما بينها أحيانا، أو تحوي كثير من التفاصيل غير الهامة، ومن ثم ندرك أهمية مهارة المدرس في إعادة صياغة المنهج.. وهذا يأتي في سياق إعادة الروح للدروس التاريخية، وذلك بإعادة المعاني الإسلامية لكل درس، وذلك بتقديم القدوة من خلال أبطال التاريخ، وتقديم عوامل النصر والهزيمة التي وضعها الله في سننه الأزلية، وذكر آداب الإسلام في الحرب، وفي الوفاء بالمعاهدات مع الآخرين، وإيضاح الدور التاريخي الذي قامت به أمتنا في تطوير العلوم والفنون في المجالات المختلفة، فالأمة أقامت حضارة يشهد لها العدو قبل الصديق، هذا يحتاج لترسيخ معاني إسلام العمران والحضارة، وعدم قصر الأمر على الفتوحات العسكرية والصراعات السياسية في التاريخ الإسلامي.

    أما عن مناهج تدريس التاريخ عند كثير من التجمعات الإسلامية، فالمشكلة ذات أبعاد مختلفة، فالتاريخ عند كثير منها يقف عند نهاية الخلافة الراشدة، ويضاف عليهم فترة عمر بن عبد العزيز، وكأن تاريخ الأمة انحصر في أربعين عامًا لا غير، وخلاف ذلك بدخل في إطار بحر الظلمات، فلا يدري كثير منهم شيئًا عن حضارة الإسلام التي عاشت قرون متطاولة من الزمان، لذا رأينا الرواج لشرائط أحد الأطباء المهتمين بالتاريخ عن تاريخ الأندلس، وكأن هذا التاريخ لم يكن موجودًا من قبل. بل الأدهى من ذلك فإن كثير من هذه التجمعات لا يعرف تطور الفكرة والحركة الإسلامية في التاريخ المعاصر، ومن ثم تجد كثير منهم يظن أن حركته هي الإسلام نفسه، وحولها تدور الأحداث في العالم، ويبدأ في التفكير في أمور سبقه إليها آخرون في زمن فائت، وصار فيها كتب ودراسات، ولكن الكثيرين يطيب لهم البدء من الصفر بلا نظر في تاريخ وتجارب من سبقوهم، أو كما يقال يطيب لهم إعادة اختراع العجلة.

    ومن ثم أصبح التوجه لهذا الأمر من جانب المحترفين فريضة شرعية، فالأمر صار مستهدفا من جانب من يمكرون بهذه الأمة، وصار واقع تعليم التاريخ من البؤس في كافة الأصعدة ما يبشر بسوء العاقبة، إذ كيف يمكن أن تتقدم أمة دون أن تستفيد من خبراتها عبر الزمان.

    ومع ذلك فإنَّ المدرس يستطيع أن يخفِّف من هذا الواقع بعدَّة أمور:

    أوَّلا: التمكُّن من موضوع درسه، ومعرفة الآراء المختلفة والروايات المتعدِّدة حوله.

    ثانيا: الاستعانة بالصور والخرائط عند شرح دروسٍ بها شخصيَّاتٌ أو معارك وما إلى ذلك.

    ثالثا: القيام بزيارات لأماكن الأحداث، إن كانت قريبة، أو ما يشابه ذلك، فالوقوف على شاطئ البحر والحديث عن الحملة الصليبيَّة الثالثة -مثلا- وحصارها البحريِّ لسواحل عكَّا والمقاومة الإسلاميَّة لها، يجعل للدرس وقعاً مختلفاً على الطالب.

    رابعا: من الممكن معالجة تاريخ إحدى الثورات من خلال قراءة بعض الأدبيَّات التي تمَّ تداولها أثناء الثورة.

    خامسا: من أشهر الوسائل في إطار تقريب المعلومات التاريخيَّة ما يُطلَق عليه: "مسرحة الأحداث"، بمعنى تحويلها إلى روايةٍ أبطالها من الطلبة، وفي هذا الإطار من الأفضل إطلاق خيال الطلبة، بمعنى أن يُترَك الطالب عند بعض النقاط المفصليَّة في الأحداث ليتصرَّف بما يراه، وليس كما حدث، مع تقييم كلٍّ منهما.

    سادسا: من الممكن الاستعانة بلوحة الرمل، وهي منضدة متوسطة ذات حواف مرتفعة، وتعلوها الرمال لمستوى الحواف، وعليها يمكن تصوير المعارك أو الأحداث ذات الصلة من حركة الجيوش، ويتم استخدام بعض الألعاب الصغيرة عليها لتمثيل الحدث.

    سابعا: عند الحديث عن بعض الجوانب الحضاريَّة مثل العمارة والفنون، فإن استحال القيام بزيارةٍ لأماكنها ورؤيتها، فلا أقلَّ من توفير صورٍ مكبَّرةٍ، أو أفلامٍ تسجيليَّةٍ عنها، وإلا فسيتسرَّب النوم سريعاً إلى الجميع.

    ثامنا: إن كان التاريخ المدروس له شهودٌ أحياء، فإنَّ استضافة أحد هؤلاء الشهود يكون مؤثِّراً وفعالا.

    تاسعا: من المهم أيضا في هذا الإطار أن يتم استخلاص أهم العبر من الدرس وربطها بالواقع وتقييم الأحداث وفقها، فمثلا نتكلم عن دور الديون في التمكين للعدو من الدخول للوطن واحتلاله في مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وفي تونس في عهد حكم البايات في القرن التاسع عشر، وكذلك في ليبيا قبيل الاحتلال الإيطالي، ثم ننظر ماذا يكون التقييم لما تفعله دول كثيرة اليوم من اللجوء للاستدانة، ثم ماذا نتوقع وفق الدرس التاريخي ومتغيرات الحاضر، وبذلك يتعلم الدارس تدريجيا كيف يتم استخدام التاريخ في فهم الواقع، وقراءة المستقبل.

    عاشرا: الإبداع الذاتيِّ من خلال معرفة الطلاَّب أو المتلقين وما يؤثِّر فيهم.

    ويسبق كلَّ هذه الوسائل إيمانُ المدرِّس بمادَّته، وإحساسه بأهمِّيَّتها، ومعرفته بدورها في بناء الشخصيَّة، ودور التاريخ في قراءة الواقع، ورسم خطوط المستقبل، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه.


      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 14, 2024 8:13 am